الحاكمية ٧

08-05-2020

- ٧ -   الحاكمية

 

تشجيع الأتاتوركيين من قبل بعض الأشخاص:

إن تشبيه أهل التوحيد المعاصرين بالخارجيين وتخصيص آيات سورة المائدة لأهل الكتاب خطأ:

١ - من الخوارج؟ تعريفهم وأخطائهم

٢ - من الذين يكفرونهم؟

٣ - من هم أهل الكتاب؟

٤ - آيات سورة المائدة والمخاطبين بها.

٥ - ماذا يقول المفسرون؟

٦ - الأتاتوركيون والجرائم التي ارتكبوها.

٧ - من هم اليوم الذين يعتبرون أهل التوحيد؟

٨ - ماذا يقول علمائنا المعاصرين؟

٩ - النتيجة.

أولاً نقرأ تفسير وتحليل الآيات ٤٤، ٤٥، ٤٦، ٤٧، ٤٨، ٤٩، ٥٠ من سورة المائدة من تفسير السيد قطب "في ظلال القرءان" مرة أخرى: ذلك كان حكم الله على المحكومين الذين لا يقبلون حكم شريعة الله في حياتهم.. فالآن يجيء حكمه -تعالى- على الحاكمين، الذين لا يحكمون بما أنزل الله. الحكم الذي يوافق جميع الديانات التي جاءت من عند الله عليه:

٤٤ - إنّآ أنزلنا التّوراة فيها هدًى ونور يحكم بها النّبيّون الذين أسلموا للذين هادوا والرّباّنـيّون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشووا النّاس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لّم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون

٤٥ - وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسّنّ بالسّنّ والجروح قصاص فمن تصدّق به فهو كفّارة لّه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظّالمون

لقد جاء كل دين من عند الله ليكون منهج الحياة. منهج الحياة الواقعية. جاء الدين ليتولى قيادة الحياة البشرية، وتنظيمها، وتوجهيها ، وصيانتها. ولم يجيء دين من عند الله ليكون مجرد عقيدة في الضمير ؛ ولا ليكون كذلك مجرد شعائر تعبدية تؤدى في الهيكل والمحارب. فهذه وتلك -على ضرورتهما للحياة البشرية وأهميتهما في تربية الضمير البشري- لا يكفيان وحدهما لقيادة الحياة وتنظيمها وتوجيهها وصيانتها؛ ما لم يقم على أساسهما منهج ونظام وشريعة تطبق عملياً في حياة الناس؛ ويؤخذ الناس بها بحكم القانون والسلطان ؛ ويؤخذ الناس على مخالفتها، ويؤخذون بالعقوبات.

والحياة البشرية لا تستقيم إلا إذا تلقت العقيدة والشعائر والشرائع من مصدر واحد ؛ يملك السلطان على الضمائر والسرائر، كما يملك السلطان على الحركة والسلوك. ويجزي الناس وفق شرائعه في الحياة الدنيا ، كما يجزيهم وفق حسابه في الحياة الآخرة. فأما حين ما تتوزع السلطة، وتتعدد مصادر التلقي... حين تكون السلطة لله في الضمائر والشعائر بينما السلطة لغيره في الأنظمة والشرائع.. وحين تكون السلطة لله في جزاء الآخرة بينما السلطة لغيره في عقوبات الدنيا... حينئذ تتمزق النفوس البشرية بين السلطتين المختلفتين، وبين الاتجاهين المختلفين ، وبين المنهجين المختلفين.. وحينئذ تفسد الحياة البشرية ذلك الفساد الذي تشير إليه آيات القرآن في مناسبات شتى:

لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا (الأنبياء:٢٢)

ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن (المؤمنون:٧١)

ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها و لا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (الجاثية:١٨)

من أجل هذا جاء كل دين من عند الله ليكون منهجاً للحياة. وسواء جاء هذا الدين لقرية من القرى، أو لأمة من الأمم، أو للبشرية كافة في جميع أجيالها، فقد جاء ومعه شريعة معينة لحكم واقع الحياة ، إلى جانب العقيدة التي تنشئ التصور الصحيح للحياة، إلى جانب الشعائر التعبدية التي تربط القلوب بالله... وكانت هذه الجوانب الثلاث هي قوام دين الله. حيثما جاء دين من عند الله. لأن الحياة البشرية لا تصلح ولا تستقيم إلا حين يكون دين الله هو منهج الحياة.

وفي القرآن الكريم شواهد شتى على احتواء الديانات الأولى، التي ربما جاءت لقرية من القرى ، أو لقبيلة من القبائل على هذا التكامل، في الصورة المناسبة للمرحلة التي تمر بها القرية أو القبيلة... وهنا يعرض هذا التكامل في الديانات الثلاث الكبرى... اليهودية، والنصرانية، والإسلام…

ويبدأ بالتوراة في هذه الآيات التي نحن بصددها في هذه الفقرة: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور

فالتوراة -كما أنزلها الله-كتاب الله الذي جاء لهداية بني إسرائيل، وإنارة طريقهم إلى الله. وطريقهم قي الحياة... وقد جاءت تحمل عقيدة التوحيد. وتحمل شعائر تعبدية شتى. وتحمل كذلك الشريعة:

 ... يحكم بها النّبيّون الذين أسلموا للذين هادوا والرّباّنـيّون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء (المائدة:٤٤)

أنزل الله التوراة لا لتكون هدىً ونوراً للضمائر والقلوب بما فيها من عقيدة وعبادات فحسب. ولكن كذلك لتكون هدىً ونوراً بما فيها من شريعة تحكم الحياة الواقعية وفق منهج الله ، وتحفظ هذه الحياة في إطار هذا المنهج. ويحكم بها النبيون الذين أسلموا أنفسهم لله؛ فليس لهم في أنفسهم شيء؛ إنما هي كلها لله؛ وليست لهم مشيئة ولا سلطة ولا دعوى في خصيصة من خصائص الألوهية -وهذا هو الإسلام في معناه الأصيل- يحكمون بها للذين هادوا -فهي شريعتهم الخاصة نزلت لهم في حدودهم هذه وبصفتهم هذه- كما يحكم بها لهم الربانيون والأحبار، وهم قضاتهم وعلماؤهم. وذلك بما أنهم قد كلفوا المحافظة على كتاب الله، وكلفوا أن يكونوا عليه شهداء، فيؤدوا له الشهادة في أنفسهم، بصياغة حياتهم الخاصة وفق توجيهاته، كما يؤدوا له الشهادة في قومهم بإقامة شريعته بينهم.

وقبل أن ينتهي السياق من الحديث عن التوراة ، يلتفت إلى الجماعة المسلمة ليوجهها في شأن الحكم بكتاب الله عامة، وما قد يعترض هذا الحكم من شهوات الناس وعنادهم وحربهم وكفاحهم، وواجب كل من استحفظ على كتاب الله في مثل هذا الموقف ، وجزاء نكوله أو مخالفته:

فلا تخشووا النّاس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لّم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (المائدة:٤٤)

ولقد علم الله -سبحانه- أن الحكم بما أنزل الله ستواجهه -في كل زمان وفي كل أمة- معارضة من بعض الناس، ولن تتقبله نفوس هذا البعض بالرضى والقبول والاستسلام... ستواجهه معارضة الكبراء والطغاة وأصحاب السلطان الموروث. ذلك أنه سينزع عنهم رداء الألوهية الذي يدعونه ، ويرد الألوهية لله خالصة، حين ينزع عنهم حق الحاكمية والتشريع والحكم بما يشرعونه هم الناس مما لم يأذن به الله... وستواجهه معارضة أصحاب المصالح المادية القائمة على الاستغلال والظلم والسحت. ذلك أن شريعة الله العادلة لن تبقى على مصالحهم الظالمة... وستواجهه معارضة ذوي الشهوات والأهواء والمتاع الفاجر والانحلال. ذلك أن دين الله سيأخذهم بالتطهر منها وسيأخذهم بالعقوبة عليها... وستواجهه معارضة جهات شتى غير هذه وتيك وتلك؛ ممن لا يرضون أن يسود الخير والعدل والصلاح في الأرض.

علم الله -سبحانه- أن الحكم بما أنزل ستواجهه هذه المقاومة من شتى الجبهات ؛ وأنه لا بد للمستحفظين عليه والشهداء أن يواجهوا هذه المقاومة ؛ وأن يصمدوا لها، وأن يحتملوا تكاليفها في النفس والمال... فهو يناديهم: فلا تخشووا الناس واخشون

فلا تقف خشيتهم للناس دون تنفيذهم لشريعة الله. سواء من الناس أولئك الطغاة الذين يأبون الاستسلام لشريعة الله، ويرفضون الإقرار -من ثم- بتفرد الله-سبحانه- بالألوهية. أو أولئك المستغلون الذين تحول شريعة الله بينهم وبين الاستغلال وقد مردوا عليه. أو تلك الجموع المضللة أو المنحرفة أو المنحلة التي تستثقل أحكام شريعة الله وتشغب عليها.. لا تقف خشيتهم لهؤلاء جميعا ولغيرهم من الناس دون المضي في تحكيم شريعة الله في الحياة. فالله -وحده- هو الذي يستحق أن يخشوه. والخشية لا تكون إلا لله…

كذلك علم الله -سبحانه- أن بعض المستحفظين على كتاب الله المستشهدين ؛ قد تراودهم أطماع الحياة الدنيا ؛ وهم يجدون أصحاب السلطان، وأصحاب المال، وأصحاب الشهوات، لا يريدون حكم الله فيملقون شهوات هؤلاء جميعاً، طمعاً في عرض الحياة الدنيا - كما يقع من رجال الدين المحترفين في كل زمان ومكان ؛ وكما كان ذلك واقعاً في علماء بني إسرائيل.

فناداهم الله تعالى: ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً

وذلك لقاء السكوت ، أو لقاء التحريف ، أو لقاء الفتاوى المدخولة!

وكل ثمن هو في حقيقته قليل. ولو كان يملك الحياة الدنيا... فكيف وهو لا يزيد على أن يكون رواتب ووظائف وألقاباً ومصالح صغيرة؛ يباع بها الدين، وتشترى بها جهنم عن يقين؟!.

إنه ليس أشنع من خيانة المستأمن؛ وليس أبشع من تفريط المستحفظ؛ وليس أخس من تدليس المستشهد. والذين يحملون عنوان: "رجال الدين" يخونون ويفرطون ويدلسون، فيسكتون عن العمل لتحكيم ما أنزل الله، ويحرفون الكلم عن مواضعه، لموافاة أهواء ذوي السلطان على حساب كتاب الله.

ومن لّم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون

بهذا الحسم الصارم الجازم. وبهذا التعميم الذي تحمله "من" الشرطية وجملة الجواب، بحيث يخرج من حدود الملابسة والزمان والمكان، و ينطلق حكماً عاماً، على كل من لم يحكم بما أنزل الله، في أي جيل، و من أي قبيل...

والعلة هي التي أسلفنا... هي أن الذي لا يحكم بما أنزل الله، إنما يرفض ألوهية الله. فالألوهية من خصائصها ومن مقتضاها الحاكمية التشريعية. ومن يحكم بغير ما أنزل الله، يرفض ألوهية الله وخصائصها في جانب، ويدعي لنفسه هو حق الألوهية وخصائصها في جانب آخر... وماذا يكون الكفر إن لم يكن هو هذا وذاك؟ وما قيمة دعوى الإيمان أو الإسلام باللسان والعمل -وهو أقوى تعبيراً من الكلام- ينطق بالكفر أفصح من اللسان؟!

إن المحاكمة في هذا الحكم الصارم الجازم العام الشامل، لا تعني إلا محاولة التهرب من مواجهة الحقيقة والتأويل والتأول في مثل هذا الحكم لا يعني إلا محاولة تحريف الكلم عن مواضعه... وليس لهذه المحاكمة من قيمة ولا أثر في صرف حكم الله عمن ينطبق عليهم بالنص الصريح الواضح الأكيد.

 

القصاص:

وبعد بيان هذا الأصل القاعدي في دين الله كله، يعود السياق، لعرض نمازج من شريعة التوراة التي أنزلها الله ليحكم بها النبيون والربانيون والأحبار للذين هادوا -بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء:

وكتبنا عليهم فيهآ أنّ النّفس بالنّفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسّنّ بالسّنّ والجروح قصاص... (المائدة:٤٥)

وقد استبقيت هذه الأحكام التي نزلت بها التوراة في شريعة الإسلام، وأصبحت جزءاً من شريعة المسلمين، التي جاءت لتكون شريعة البشرية كلها إلى آخر الزمان. وإن كان لا تطبق إلا في دار الإسلام، لاعتبارات عملية بحتة؛ حيث لا تملك السلطة المسلمة أن تطبقها فيما وراء حدود دار الإسلام. وحيثما كان ذلك في استطاعتها فهي مكلفة بتنفيذها وتطبيقها، بحكم أن هذه الشريعة عامة للناس كافة، للأزمان كافة، كما أرادها الله.

وقد أضيف إليها في الإسلام حكم آخر في قوله تعالى: فمن تصدق به فهو كفارة له

ولم يكن ذلك في شريعة التوراة، إذ كان القصاص حتماً؛ لا تنازل فيه، ولا تصدق به، ومن ثم فلا كفارة.

ويحسن أن نقول كلمة عن عقوبات القصاص هذه على قدر السياق في الظلال.

أول ما تقرره شريعة الله في القصاص، هو مبدأ المساواة... المساواة في الدماء والمساواة في العقوبة... ولم تكن شريعة أخرى -غير شريعة الله- تعترف بالمساواة بين النفوس، فتقتص للنفس بالنفس، وتقتص للجوارح بمثلها، على اختلاف المقامات والطبقات والأنساب والدماء والأجناس...

النفس بالنفس. والعين بالعين. والأنف بالأنف. والأذن بالأذن. والسن بالسن. والجروح قصاص... لا تمييز. ولا عنصرية. ولا طبقية. ولا حاكم. ولا محكوم... كلهم سواء أمام شريعة الله. فكلهم من نفس واحدة في خلقة الله.

إن هذا المبدأ العظيم الذي جاءت به شريعة الله هو الإعلان الحقيقي الكامل لميلاد "الإنسان" الإنسان الذي يستمع كل فرد فيه بحق المساواة.. أولاً في التحاكم إلى شريعة واحدة وقضاء واحد. وثانياً في المقاصة على أساس واحد وقيمة واحدة.

وهو أول إعلان. وقد تخلفت شرائع البشر الوضعية عشرات من القرون حتى ارتقت إلى بعض مستواه من ناحية النظريات القانونية ، وإن ظلت دون هذا المستوى من ناحية التطبيق العملي.

ولقد انجرف اليهود الذين ورد هذا المبدأ العظيم في كتابهم -التوراة- عنه؛ لا فيما بينهم وبين الناس فحسب، حيث كانوا يقولون: "ليس علينا في الأميين سبيل" بل فيما بينهم هم أنفسهم. على نحو ما رأينا فيما كان بين بني قريظة الذليلة، وبني النضير العزيزة؛ حتى جاءهم محمد -صلى الله عليه وسلم- فردهم إلى شريعة الله -شريعة المساواة ورفع جباه الأذلاء منهم فساواها بجباه الأعزاء!

والقصاص على هذا الأساس العظيم -فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان- هو العقاب الرادع الذي يجعل من يتجه إلى الاعتداء على النفس بالقتل، أو الاعتداء عليها بالجرح والكسر، يفكر مرتين ومرات قبل أن يقدم على ما حدثته به نفسه، وما زينه له اندفاعه؛ وهو يعلم أنه مأخوذ بالقتل إن قتل - دون نظر إلى نسبه أو مركزه، أو طبقته، أو جنسه- وأنه مأخوذ بمثل ما أحدث من الإصابة. إذا قطع يداً أو رجلاً قطعت يده أو رجله؛ وإذا أتلف عيناً أو أذناً أو أنفاً أو سناً، أتلف من جسمه ما يقابل العضو الذي أتلفه.. وليس الأمر كذلك حين يعلم أن جزاءه هو السجن –سواء طالت مدة السجن أم قصرت-فالألم في البدن ، والنقص في الكيان، والتشويه في الخلقة شيء آخر غير آلام السجن… على نحو ما سبق بيانه في حد السرقة…

والقصاص على هذا الأساس العظيم -فوق ما يحمله من إعلان ميلاد الإنسان- هو القضاء الذي تستريح إليه الفطرة ؛ والذي يذهب بحزازات النفوس، وجراحات القلوب، والذي يسكن فورات الثأر الجامحة، التي يقودها الغضب الأعمى وحمية الجاهلية.. وقد يقبل بعضهم الدية في القتل والتعويض في الجراحات. ولكن بعض النفوس لا يشفيها إلا القصاص...

وشرعُ الله في الإسلام يلحظ الفطرة -كما لحظها شرع الله في التوراة حتى إذا ضمن لها القصاص المريح… راح يناشد فيها وجدان السماحة والعفو عفو القادر على القصاص: فمن تصدق به فهو كفارة له

من تصدق بالقصاص متطوعاً… سواء كان هو ولي الدم في حالة القتل (والصدقة تكون بأخذ الدية مكان القصاص، أو بالتنازل عن الدم والدية معاً وهذا من حق الولي، إذ العقوبة والعفو متروكان له ويبقى للإمام تعزير القاتل بما يراه) أو كان هو صاحب الحق في حالة الجروح كلها، فتنازل عن القصاص... من تصدق فصدقته هذه كفارة لذنوبه؛ يحط بها الله عنه.

وكثيراً ما تستجيش هذه الدعوة إلى السماحة والعفو، وتعليق القلب بعفو الله ومغفرته نفوساً لا يغنيها العوض المالي؛ ولا يسليها القصاص ذاته عمن فقدت أو عما فقدت… فماذا يعود على ولي المقتول من قتل القاتل؟ أو ماذا يعوضه من مال عمن فقد؟.. إنه غاية ما يستطاع في الأرض لإقامة العدل، وتأمين الجماعة... ولكن تبقى في النفس بقية لا يمسح عليها إلا تعليق القلوب بالعوض الذي يجيء من عند الله...

روى الإمام أحمد. قال: حدثنا وكيع، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر، قال: "كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار فاستعدى عليه معاوية فقال معاوية: سنرضيه... فألح الأنصاري فقال معاوية: شأنك بصاحبك! -وأبو الدرداء جالس- فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة، أو حط به عنه خطيئة"... فقال الأنصاري: فإني قد عفوت"...

وهكذا رضيت نفس الرجل واستراحت بما لم ترض من مال معاوية الذي لوح له بالتعويض…

وتلك شريعة الله العليم بخلقه؛ وبما يحيك في نفوسهم من مشاعر وخواطر، وبما يتعمق قلوبهم ويرضيها؛ ويكسب فيها الاطمئنان والسلام من الأحكام. وبعد عرض هذا الطرف من شريعة التوراة، التي صارت طرفاً من شريعة القرآن، يعقب بالحكم العام: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون

والتعبير عام، ليس هناك ما يخصصه؛ ولكن الوصف الجديد هنا هو "الظالمون".

وهذا الوصف الجديد لا يعنى أنها حالة أخرى غير التي سبق الوصف فيها بالكفر. وإنما يعني إضافة صفة أخرى لمن لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر باعتبار رافضاً لألوهية الله -سبحانه- واختصاصه بالتشريع لعباده، وبادعائه هو حق الألوهية بادعائه حق التشريع للناس، وهو ظالم بحمل الناس على شريعة غير شريعة ربهم، الصالحة المصلحة لأحوالهم فوق ظلمه لنفسه بإيرادها موارد التهلكة، وتعريضها لعقاب الكفر. وبتعريض حياة الناس -وهو معهم- للفساد.

وهذا ما يقتضيه اتحاد المسند إليه وفعل الشرط: ومن لم يحكم بما أنزل الله

فجواب الشرط الثاني يضاف إلى جواب الشرط الأول؛ ويعود كلاهما على المسند إليه في فعل الشرط وهو "من" المطلق العام.

 

الأحكام في الإنجيل:

ثم يمضي السياق في بيان اطراد هذا الحكم العام فيما بعد التوراة.

٤٦ - وقفّينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدّقاً لما بين يديه من التّوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدىً ونور ومصدّقا لّما بين يديه من التّوراة وهدىً وموعظة للمتّقين

٤٧ - وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لّم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون

فقد آتى الله عيسى بن مريم الإنجيل، ليكون منهج الحياة، وشريعة حكم.. ولم يتضمن الإنجيل في ذاته تشريعاً إلا تعديلات طفيفة في شريعة التوراة. وقد جاء مصدقاً لما بين يديه من التوراة، فاعتمدت شريعتها-فيما عدا هذه التعديلات الطفيفة... وجعل الله فيه هدى ونوراً، وهدى وموعظة... ولكن لمن ؟.. "للمتقين". فالمتقون هم الذين يجدون في كتب الله الهدى والنور والموعظة، هم الذين تتفتح قلوبهم لما في هذه الكتب من الهدى والنور... أما القلوب الجاسية الغليظة الصلدة فلا تبلغ إليها الموعظة؛ ولا تجد في الكلمات معانيها؛ ولا تجد في التوجهات روحها؛ ولا تجد في العقيدة مذاقها؛ ولا تنتفع من هذا الهدى ومن هذا النور بهداية ولا معرفة ولا تستجيب. إن النور موجود، ولكن لا تدركه إلا البصيرة المفتوحة، وإن الهدى موجود، ولكن لا تدركه إلا الروح المستشرفة، وإن الموعظة موجودة، ولكن لا يلتقطها إلا القلب الواعي. وقد جعل الله في الإنجيل هدى ونوراً وموعظة للمتقين، وجعله منهج حياة وشريعة حكم لأهل الإنجيل... أي إنه خاص بهم، فليس رسالة عامة للبشرية.

شأن التوراة في هذا مثل شأن الإنجيل، وشأن كل كتاب وكل رسالة وكل رسول مبعوث ما قلب خاتم الأنبياء، ولكن كل ما طابق من شريعة القرآن بالشريعة التي ما قبلها فهي أيضاً شريعة القرآن الكريم، كما مر بنا في شريعة القصاص.

وأهل الإنجيل كانوا إذن مطالبين بأن يتحاكموا إلى الشريعة التي أقرها وصدقها الإنجيل من شريعة التوراة : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه

فالقاعدة هي الحكم بما أنزل الله دون سواه. وهم واليهود كذلك لن يكونوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل -قبل الإسلام- وما أنزل إليهم من ربهم -بعد الإسلام- فكله شريعة واحدة، هم ملزمون بها، وشريعة الله الأخيرة هي الشريعة المعتمدة: و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون

والنص هنا كذلك على عمومه وإطلاقه.. وصفة الفسق تضاف إلى صفتي الكفر والظلم من قبل، وليست تعني قوماً جدداً ولا حالة جديدة منفصلة عن الحالة الأولى. إنما هي صفة زائدة على الصفتين اللتين ما قبلها، لا صفة بمن لم يحكم بما أنزل الله من أي جيل، ومن أي قبيل.

الكفر برفض ألوهية الله ممثلاً هذا في رفض شريعته. والظلم بحمل الناس على غير شريعة الله وإشاعة الفساد في حياتهم. والفسق بالخروج عن منهج الله واتباع غير طريقته.. فهي صفات يتضمنها الفعل الأول، وتنطبق جميعها على الفاعل، ويبوء بها جميعاً دون تفريق.

وأخيراً يصل السياق إلى الرسالة الأخيرة؛ وإلى الشريعة الأخيرة.. إنها الرسالة التي جاءت تعرض "الإسلام" في صورته النهائية الأخيرة؛ ليكون دين البشرية كلها؛ ولتكون شريعته هي شريعة الناس جميعاً؛ ولتهيمن على كل ما كان قبلها وتكون هي المرجع النهائي؛ ولتقيم منهج الله لحياة البشرية حتى يرث الله الأرض ومن عليها. المنهج الذي تقوم عليه الحياة في شتى شعبها ونشاطاتها؛ والشريعة التي تعيش الحياة في إطارها وتدور حول محورها؛ وتستمد منها تصورها الاعتقادي، ونظامها الاجتماعي وآداب سلوكها الفردي والجماعي.. وقد جاءت كذلك ليحكم بها، لا لتعرف وتدرس، وتتحول إلى ثقافة في الكتب والدفاتر! وقد جاءت لتتبع بكل دقة، ولا يترك شيء منها ويستبدل به حكم آخر في صغيرة من شؤون الحياة أو كبيرة... فإما هذه وإما فهي الجاهلية والهوى. ولا يشفع في هذه المخالفة أن يقول أحد إنه يجمع بين الناس بالتساهل في الدين. فلو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة. إنما يريد الله أن تحكم شريعته، ثم يكون من أمر الناس ما يكون.

 

حكم القرآن:

٤٨ - وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتّبع أهوائهم عمّا جاءك من الحق لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمّة واحدة ولكن لّيبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون

٤٩ - وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتّبع أهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولّوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإنّ كثيرا من النّاس لفاسقون

٥٠ - أفحكم الجاهليّة يبغون ومن أحسن من الله حكما لقومن يوقنون...

ويقف الإنسان أمام هذه النصاعة في التعبير، وهذا الحسم في التقرير، وهذا الاحتياط البالغ لكل ما قد يهجس في الخاطر من مبررات لترك شيء -ولو قليلاً من هذه الشريعة في بعض الملابسات والظروف... يقف الإنسان أمام هذا كله، فيعجب كيف ساغ لمسلم -يدعي الإسلام- أن يترك شريعة الله كلها، بدعوى الملابسات والظروف! وكيف ساغ له أن يظل يدعي الإسلام بعد هذا الترك الكلي لشريعة الله! لا يزال الناس يسمون أنفسهم "مسلمين"؟ وقد خلعوا ربقة الإسلام من رقابهم، وهم يخلعون شريعة الله كلها؛ ويرفضون الإقرار له بالألوهية، في صورة رفضهم الإقرار بشريعته، وبصلاحية هذه الشريعة في جميع الملابسات والظروف، وبضرورة تطبيقها كلها في جميع الملابسات والظروف!

وأنزلنا إليك الكتاب بالحق!

يتمثل الحق في صدوره من جهة الألوهية، وهي الجهة التي تملك حق تنزيل الشرائع، وفرض القوانين. ويتمثل الحق في محتوياته، وفي كل ما يعرض له من شئون العقيدة والشريعة، وفي كل ما يقصه من خير، وما يحمله من توجيه.

مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه!

فهذه الصورة الأخيرة لدين الله، وهو المرجع الأخير في هذا الشأن، والمرجع الأخير في منهج الحياة وشرائع الناس، ونظام حياتهم، بلا تعديل بعد ذلك ولا تبديل.

ومن ثم فكل اختلاف يجب أن يرد إلى هذا الكتاب ليفصل فيه،سواء كان هذا الاختلاف في التصور الاعتقادي بين أصحاب الديانات السماوية، أو في الشريعة التي جاء هذا الكتاب بصورتها الأخيرة، و كان هذا الاختلاف بين المسلمين أنفسهم، فالمرجع الذي يعودون إليه بآرائهم في شأن الحياة كلها هو هذا الكتاب، ولا قيمة لآراء الرجال ما لم يكن لها أصل تستند إليه من هذا المرجع الأخير.

وتترتب على هذه الحقيقة مقتضياتها المباشرة:

فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق.

والأمر موجه ابتداء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما كان فيه من أمر أهل الكتاب الذين يجيئون إليه متحاكمين. ولكنه ليس خاصاً بهذا السبب، بل هو عام وإلى آخر الزمان… طالما أنه ليس هناك رسول جديد، ولا رسالة جديدة، لتعديل شيء ما في هذا المرجع الأخير!

لقد كمل هذا الدين، وتمت به نعمة الله على المسلمين ورضيه الله لهم منهج الحياة للناس أجمعين، ولم يعد هناك من سبيل لتعديل شيء فيه أو تبديله، ولا لترك شيء من حكمه إلى حكم آخر، ولا شيء من شريعته إلى شريعة أخرى. وقد علم الله حين رضيه للناس، أنه يسع الناس جميعاً، وعلم الله حين رضيه مرجعاً أخيراً أنه يحقق الخير للناس جميعاً. وأنه يسع حياة الناس جميعاً إلى يوم الدين. وأي تعديل في هذا المنهج - ودعك من العدول عنه هو إنكار لهذا المعلوم من الدين بالضرورة يخرج صاحبه من هذا الدين ولو قال باللسان ألف مرة : إنه من المسلمين!

وقد علم الله أن معاذير كثيرة يمكن أن تقوم وأن يبرر بها العدول عن شيء مما أنزل الله واتباع أهواء المحكومين المتحاكمين… وأن هواجس قد تتسرب في ضرورة الحكم بما أنزل الله كله بلا عدول عن شيء فيه في بعض الملابسات والظروف. فحذر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآيات مرتين من إتباع أهواء المتحاكمين، ومن فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه…

وأولى هذه الهواجس: الرغبة البشرية الخفية في تأليف القلوب بين الطوائف المتعددة، والاتجاهات والعقائد المتجمعة في بلد واحد، ومسايرة بعض رغباتهم عند ما تصطدم ببعض أحكام الشريعة، والميل إلى التساهل في الأمور الطفيفة، أو التي يبدو أنها ليست من أساسيات الشريعة!

وقد روي أن اليهود عرضوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يؤمنوا له إذا تصالح معهم على التسامح في أحكام بعينها منها حكم الرجم وأن هذا التحذير قد نزل بخصوص هذا العرض... ولكن الأمر -كما هو ظاهر -أعم من حالة بعينها وعرض بعينه. فهو أمر يعرض في مناسبات شتى، ويتعرض له أصحاب هذه الشريعة في كل حين... وقد شاء الله -سبحانه- أن يحسم في هذا الأمر، وأن يقطع الطريق على الرغبة البشرية الخفية في التساهل مراعاة للاعتبارات والظروف، وتأليفاً للقلوب حين تختلف الرغبات والأهواء. فقال لنبيه: إن الله هو لو شاء لجعل الناس أمة واحدة؛ ولكنه جعل لكل منهم طريقاً ومنهاجاً؛ وجعلهم مبتلين مختبرين فيما آتاهم من الدين والشريعة، وما آتاهم في الحياة كلها من عطايا وأن كلاً منهم يسلك طريقه؛ ثم يرجعون كلهم إلى الله ، فينبئهم بالحقيقة، ويحاسبهم على ما اتخذوا من منهج وطريق... وأنه إذن لا يجوز أن يفكر في التساهل في شيء من الشريعة لتجميع المختلفين في الطرق والمناهج... فهم لا يتجمعون: لكلّ جعلنا منكم شريعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمّة واحدة ولكن لّيبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون.

بذلك أغلق الله -سبحانه- مداخل الشيطان كلها؛ وبخاصة ما يبدو منها خيراً وتأليفاً للقلوب وتجميعاً للصفوف؛ بالتساهل في شيء من شريعة الله؛ في مقابل إرضاء الجميع! أو في مقابل ما يسمونه وحدة الصفوف!

إن شريعة الله أبقى وأغلى من أن يضحى بجزء منها في مقابل شيء قدر الله ألا يكون! فالناس قد خلقوا ولكل منهم استعداد ولكل منهم طريق، ولكل منهم منهج، ولكل منهم طريق. ولحكمة من حكم الله خلقوا هكذا مختلفين. وقد عرض الله عليهم الهدى؛ وتركهم يستبقون. وجعل هذا ابتلاء لهم يقوم عليه جزاؤهم يوم يرجعون إليه، وهم إليه راجعون؛

وإنها لعلة باطلة إذن، ومحاولة فاشلة، أن يحاول أحد أن يجمعهم على حساب شريعة الله، أو بتعبير آخر على حساب صلاح الحياة البشرية وفلاحها. فالعدول أو التعديل في شريعة الله لا يعني شيئاً إلا الفساد في الأرض؛ وإلا الانحراف عن المنهج الوحيد القويم؛ وإلا انتفاء العدالة في حياة البشر؛ وإلا عبودية الناس بعضهم لبعض، واتخاذ بعضهم لبعض أربابا من دون الله... وهو شر عظيم وفساد عظيم... لا يجوز ارتكابه في محاولة عقيمة لا تكون؛ لأنها غير ما قدره الله في طبيعة البشر؛ ولأنها مضادة للحكمة التي من أجلها قدر ما قدر من اختلاف المناهج والمشاريع، والاتجاهات والطرق... وهو خالق الخلق وصاحب الأمر الأول فيهم والأخير. وإليه المرجع والمصير...

إن محاولة التساهل في شيء من شريعة الله، لمثل هذا الغرض، تبدو -في ظل هذا النص الصادق الذي يبدو مصداقه في واقع الحياة البشرية في كل ناحية- محاولة سخيفة؛ لا مبرر لها من الواقع؛ ولا سند لها من إرادة الله؛ ولا قبول لها في حس المسلم، الذي لا يحاول إلا تحقيق مشيئة الله. فكيف وبعض من يسمون أنفسهم "مسلمين" يقولون: إنه لا يجوز تطبيق الشريعة حتى لا نخسر "السائحين" ؟!!! أي والله هكذا يقولون!

ويعود السياق فيؤكد هذه الحقيقة، ويزيدها وضوحاً. فالنص الأول:

فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق.

قد يعني النهي عن ترك شريعة الله كلها إلى أهواءهم! فالآن يحذره من فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه:

وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتّبع أهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض مآ أنزل الله إليك.

فالتحذير هنا أشد وأدق؛ وهو تصوير للأمر على حقيقته... فهي فتنة يجب أن تحذر.. والأمر في هذا المجال لا يعدو أن يكون حكماً بما أنزل الله كاملاً؛ أو أن يكون إتباعاً للهوى وفتنة يحذر الله منها.

ثم يستمر السياق في تتبع الهواجس والخواطر؛ فيهون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أمرهم إذا لم يعجبهم هذا الاستمساك الكامل بالصغيرة قبل الكبيرة في هذه الشريعة ، وإذا هم تولوا فلم يختاروا الإسلام ديناً ؛ أو تولوا عن الاحتكام إلى شريعة الله (في ذلك الأوان حيث كان هناك تخيير قبل أن يصبح هذا حتماً في دار الإسلام):

فإن تولّوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإنّ كثيرا من النّاس لفاسقون.

فإن تولوا فلا عليك منهم ؛ ولا يفتنك هذا عن الاستمساك الكامل بحكم الله وشريعته. ولا يكسر إعراضهم قوتك المعنوية أو يحولك عن موقفك... فإنهم إنما يتولون ويعرضون لأن الله يريد أن يجزيهم على بعض ذنوبهم. فهم الذين سيصيبهم السوء بهذا الإعراض إلا أنت ولا شريعة الله ودينه؛ ولا المسلمين الذين يتمسكون بدينه... ثم إنها طبيعة البشر: وإن كثيراً من الناس لفاسقون. فهم يخرجون وينحرفون. لأنهم هكذا ؛ ولا حيلة لك في هذا الأمر، ولا ذنب للشريعة! ولا سبيل لاستقامتهم على الطريق!

وبذلك يغلق كل منافذ الشيطان ومداخله إلى النفوس المؤمنة؛ ويأخذ الطريق على كل حجة وكل ذريعة لترك شيء من أحكام هذه الشريعة؛ لغرض من الأغراض؛ في ظرف من الظروف..

ثم يوقفهم على مفرق الطريق... فإنه إما حكم الله، وإما حكم الجاهلية ولا وسط بين الطرفين ولا بديل... حكم الله يقوم في الأرض، وشريعة الله تنفذ في حياة الناس، ومنهج الله يقود حياة البشر... أو أنه حكم الجاهلية، وشريعة الهوى، ومنهج العبودية... فأيهما يبغون؟

 

حكم الجاهلية:

أفحكم الجاهليّة يبغون ومن أحسن من الله حكما لقومن يوقنون؟

إن معنى الجاهلية يتحدد بهذا النص. فالجاهلية -كما يصفها الله ويحددها القرآن الكريم- هي حكم البشر للبشر، لأنها هي عبودية البشر للبشر، والخروج من عبودية الله، ورفض ألوهية الله، والاعتراف في مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون الله…

إن الجاهلية -في ضوء هذا النص- ليست فطرة من الزمان؛ ولكنها وضع من الأوضاع، هذا الوضع يوجد في الماضي والحاضر وسيوجد في المستقبل، فيأخذ صفة الجاهلية المقابلة للإسلام، والمناقضة للإسلام.

والناس -في أي زمان وفي أي مكان- إما أنهم يحكمون بشريعة الله -دون فتنة عن بعضهم منها- ويقبلونها ويسلمون بها تسليماً، فهم إذن في دين الله. وإما أنهم يحكمون بشريعة من صنع البشر -في أي صورة من الصور- ويقبلونها فهم إذن في جاهلية؛ وهم في دين من يحكمون بشريعته، وليسوا بحال في دين الله. والذي لا يبتغي حكم الله يبتغي حكم الجاهلية؛ والذي يرفض شريعة الله يبتغي شريعة الجاهلية ويعيش في الجاهلية. وهذا مفرق الطريق، يقف الله الناس عليه. وهم بعد ذلك بالخيار! ثم يسألهم سؤال استنكار لابتغائهم حكم الجاهلية؛ وسؤال تقرير لأفضلية حكم الله.

ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ؟

وأجل! فمن أحسن من الله حكماً؟

ومن ذا الذي يجرؤ على ادعاء أنه يشرع للناس، ويحكم فيهم، خيراً مما يشرع الله لهم ويحكم فيهم؟ وأية حجة يملك أن يسوقها بين يدي هذا الادعاء العريض؟

أيستطيع أن يقول: إنه أعلم بالناس من خالق الناس؟ أيستطيع أن يقول: أرحم بالناس من إله الناس؟ أيستطيع أن يقول: إنه أعرف بمصالح الناس من إله الناس؟ أيستطيع أن يقول: إن الله -سبحانه- وهو يشرع شريعته الأخيرة، ويرسل رسوله الأخير؛ ويجعل رسوله خاتم النبيين، ويجعل رسالته خاتمة الرسالات، ويجعل شريعته شريعة الأبد... كان سبحانه يجهل أن أحوالاً ستطرأ، وأن حاجات ستستجد، وأن ملابسات ستقع؛ فلم يحسب حسابها في شريعته لأنها كانت خافية عليه، حتى انكشفت للناس في آخر الزمان ؟!.

ما الذي يستطيع أن يقوله من يبدل شريعة الله عن حكم الحياة، ويستبدل بها شريعة الجاهلية، وحكم الجاهلية؛ ويجعل هواه هو أو هوى شعب من الشعوب، أو هوى جيل من أجيال البشر، فوق حكم الله ، وفوق شريعة الله؟

ما الذي يستطيع أن يقوله... وبخاصة إذا كان يدعي أنه من المسلمين؟!.

الظروف؟ الملابسات ؟ عدم رغبة الناس؟ الخوف من الأعداء ؟ ألم يكن هذا كله في علم الله؛ وهو يأمر المسلمين أن يقيموا بينهم شريعته، وأن يسيروا على منهجه، وألا يفتنوا عن بعض ما أنزله؟

تقصير في شريعة الله عن استيعاب الحاجات الطارئة، والأوضاع المتجددة، والأحوال المتغلبة؟ ألم يكن ذلك في علم الله؛ وهو يشدد هذا التشديد، ويحذر هذا التحذير؟

يستطيع غير المسلم أن يقول ما يشاء... ولكن المسلم أو من يدعي الإسلام... ما الذي يقوله من هذا كله، ثم يبقى على شيء من الإسلام؟ أو يبقى لهم شيء من الإسلام؟

إنه مفرق الطريق، الذي لا اجتياز عنده من الاختيار؛ ولا فائدة في المحاكمة عنده ولا الجدال.

إما إسلام وإما جاهلية. إما إيمان وإما كفر. إما حكم الله وإما حكم الجاهلية...

والذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الكافرون الظالمون الفاسقون. والذين لا يقبلون حكم الله من المحكومين ما هم بمؤمنين...

إن هذه القضية يجب أن تكون واضحة وحاسمة في ضمير المسلم؛ وألا يتردد في تطبيقها على واقع الناس في زمانه؛ والتسليم بمقتضى هذه الحقيقة ونتيجة هذا التطبيق على الأعداء والأصدقاء!

وما لم يحسم ضمير المسلم في هذه القضية، فلم يستقم له ميزان؛ ولن يتضح له منهج، ولن يفرق في ضميره بين الحق والباطل؛ ولن يخطو خطوة واحدة في الطريق الصحيح… وإذا جاز أن تبقى هذه القضية غامضة أو مائعة في نفوس الجماهير من الناس؛ فما يجوز أن تبقى غامضة ولا مائعة في نفوس من يريد أن يكون "مسلماً" وأن يحقق لنفسه هذا الوصف العظيم...

 

جمال الدين بن رشيد خوجا أوغلي (قابلان)


RISALE

ZÄHLER

Heute 828
Insgesamt 3679961
Am meisten 7043
Durchschnitt 1493